الخميس، ١٠ شباط ٢٠١١

صور قليلة الحيلة - بلال خبيز

يدور الحديث عن صور أكثر ذكاء. صور لها عمق وأبعاد. نستطيع ان نسلسل أسماء كثيرة من هذا الطراز: كيورستامي وسليمان ومخملباف. هؤلاء يصورون صوراً لها عمق وقابلة للتنفس، تماماً مثلما تتنفس الأشجار على الأقل. قادرة على التنفس لكنها عاجزة عن الحركة في كثير من الأحيان. حية ونابضة لكنها اقل صور العالم قدرة على الركض والسباحة وممارسة الرياضة في الهواء الطلق. مركزة ومحددة على نحو ما تكون الوجوه مركزة ومحددة، حتى حين تتنفس الكاميرا فتصور السماء أو الحقول والجبال الممتدة حتى حدود الأفق، فإنها تبدو كأنها تشكو وترفع ضراعتها للسماء. حين يجري الصحافيون أحاديث مستعجلة مع الفلسطينيين الذين هدمت بيوتهم في الضفة أو القطاع سرعان ما يقول صاحب البيت المهدوم وهو يجيب عن سؤال: وماذا ستفعل الآن؟ بالقول: لنا الله. أي ان المرء في هذه الحال يصبح عارياً ومكشوفاً كآدم في الجنة وليس له من معين إلا الله. وهو معين على الستر وعلى تقبل العري والجوع والخوف من دون ان يحط ذلك من قدر المفضوح والجائع والعاري ويدني مرتبته الاجتماعية. ينظر إلى السماء كأنما البيت كان يحجبها عنه كل الوقت، وكأن جمالها الأخاذ هو كل ما تبقى من جمال وكل ما يمكن تحصيله من أمان في هذا الوضع. لكم ان تتذكروا جبال إيران الساحرة في أفلام مخملباف لتدركوا ان الله قريب جداً منها.

الخميس، ٧ تشرين الأول ٢٠١٠

إسقاط المحكمة مقابل إعادة تأهيل الحريرية السياسية و الاقتصادية


تعليقا على مقال نادر فوز في «الأخبار»  سيناريوان لتغيير الحكومة والمستقبل يستعد وينكر

اللافت إن جميع السيناريوهات المطروحة، على تعدادها، تنتهي بإعادة إنتاج المشروع الحريري السياسي و الاقتصادي في حلته السابقة لثورة الأرز بقيادة سعد الحريري نفسه أو شخصية ضالعة بالحريرية أو شخصية سنية أخرى لها علاقات بمجال الأعمال و تتمتع بدعم سعودي. هل هذا الثمن الذي سيدفع لقاء إسقاط المحكمة؟ و ماذا عن الاعتراضات المتكررة على الأداء الحكومي منذ الحريري الأب حتى ألان، هل ستسحب المعارضة السابقة كل انتقاداتها مقابل إسقاط المحكمة؟ هل يمكن أن يبقى دور للتيار الوطني الحر مثلا إذا تمت العودة إلى الصيغة التي سادت بعد اتفاق الطائف؟ أليس هذا فعليا ما يروج له ألان كمخرج من أزمة عدم قدرة اللبنانيين على حكم أنفسهم؟ دعونا نراقب هذه المهزلة السياسية لدى إعادة عرضها على شاشاتنا.



الثلاثاء، ٣١ آب ٢٠١٠

برج أبي حيدر و التوطين!!

"اعتبر الوزير الأسبق ميشال سماحة أن أحداث برج أبي حيدر لم تكن فردية بل كانت عملا مخابراتيا اختلق من قبل الأحباش لاغتيال احد مسؤولي "حزب الله" في بيروت، لافتا إلى إن بعض العرب وبعض الخارج والكثير من مخابرات الدول تريد الفتنة بلبنان وقيام جدار دخاني أثناء المفاوضات المباشرة المحضرة للتوطين ويراد لنا أن نشغل حزب الله عن مقاومته ومواجهاته لمخططات إسرائيل على الحدود وفي الخارج"

كما أشرت في المقالة السابقة، لا مكان عندنا للصدف فكل أحداثنا تُحضر في الخارج و تشكل جزئا من المؤامرات التي تحاك ضدنا. أضاف ميشال سماحة تفسيرا جديدا لأحداث برج أبي حيدر و لا بأس فالمؤامرات كالفن الحديث يمكن تفسيرها على أكثر من وجه، و المهم هنا الاجتهاد الذي ينال الوزير الأسبق أجره كاملا. و لكن اللافت في اجتهاد الرجل الذي تقلب بين ضفاف السياسة اللبنانية مرارا هو ربطه ما حصل بالتوطين مما يشكل نقلة نوعية في فن تحليل المؤامرات. لا شك أن سماحة قد انزعج، كغيره من الذين امتهنوا تهويل المسيحيين لعقود، من القوانين التي سمحت لفلسطيني لبنان بالعمل فعاد ليعزف أنشودة التوطين أملا في كسب بعض الشعبية خصوصا في أوساط المسيحيين.

لكن هذا الاستخفاف بذكاء الجماهير الذي يميز ساستنا، كمثل محاولة ربط أحداث برج أبي حيدر بالتوطين، لم يعد ينطلي على احد. والأرجح أن سماحة نفسه يدرك ذلك لكن العادات المتأصلة يصعب التخلص منها. كما إن تملق حزب الله عبر الشعارات الجوفاء، عملا بأحكام التكاذب اللبناني الذي ينظم تخاطب الطوائف مع بعضها البعض، لم يعد هو الأخر مقنعا. هناك استنتاجين واضحين يمليهما المنطق هنا. يجب سحب اسطوانة التوطين من الخطاب السياسي و العمل لتحقيق الحقوق المدنية و السياسية كاملة للفلسطينيين في لبنان. يفترض سماحة أن مجرد ذكر التوطين كافي لتهييج المسيحيين لكن هذا المنطق البالي قد ولى زمنه.

الاستنتاج الثاني يتبع مما سبق، لم يعد لأمثال سماحة موقع في السياسة و كلما أسرعنا بإحالتهم على التقاعد، أو المتاحف بالأحرى، كلما تقدمنا أكثر نحو خطاب سياسي أوعى و أجدى. ما يبقي سماحة و أشباهه قيد التداول هو المخاوف الوجودية التي تستدعيها صور كصور أحداث برج أبي حيدر و سهولة انتشار السلاح و ظهوره إلى العلن. ملاحظتان هنا إلى رفاق الأمس التقدميين: هذا لبنان ما بعد السابع من أيار الذي تمنيتموه، هل هناك مجال للنقد الذاتي هنا؟ ثانيا، انحيازكم إلى قداسة السلاح يمنع نمو قيادات جديدة في مختلف الأوساط اللبنانية و يطيل عمر القيادات الطائفية، هل علينا أن نعيد تجربة الحرب اللبنانية كاملة كي نتعلم؟ على كل حال، نبارككم على وجود أمثال ميشال سماحة ضمن تحالفاتكم العريضة.

الجمعة، ٢٧ آب ٢٠١٠

العصب الأهلي قاتلا: في واقعة برج أبي حيدر

صدق الرئيس سليم الحص عندما قال عن أحداث برج أبي حيدر إن «ما حصل كان بمثابة الكفر بقيمة الإنسان». لكننا ثابرنا على هذا النمط من الكفر لعقود، أما حان الأوان كي نسال عن أسباب هذا العنف المتأصل؟

قال قائلون بأن الإشكال مفتعل لإحراج حزب الله و تسليط الضوء على سلاحه المنتشر بكثافة في أحياء بيروت. و رأى آخرون بان العكس هو الصحيح و المقصود من المواجهة هو إضعاف موقع رئيس الحكومة سعد الحريري في الأوساط السنية. هذان ابسط الاحتمالات المتداولة، فالنظريات تزداد تعقيدا و تشابكا كلما عصى تطابقها مع الوقائع. و المفارقة أن الأحداث دائما تفاجئنا، فيندر أن تصح تحليلاتنا و توقعاتنا في السياسة و نجد أنفسنا دائما لاهثين للحاق بتأثيراتها. و الغريب في هدا كله انه لا مكان للمصادفات و الأحداث العفوية في منطقنا، فكل ما يجري عندنا مدبر و محضر و على الأرجح يشكل جزء من مؤامرات تحاك في أماكن أخرى.

فوجئ حزب الله بالأحداث ورأت جمعية المشاريع أن تطور الأمور جرى على نحو «غير مفهوم ». المفاجئة لم تمنع انتشار الأسلحة الرشاشة و القذائف الصاروخية بسرعة فائقة. و مع الطرفين الحق بإعلان تفاجئهما، فمن كان يتوقع أن انتشار الأسلحة بموازاة التهيج المذهبي قد يؤدي إلى انفجار الوضع بهذا الشكل؟ فوجئ الطرفان رغم تراكم سلسلة من الأحداث في نفس المنطقة على مر الأشهر الماضية جرى احتوائها على الطريقة اللبنانية. فوجئ الطرفان أيضا برغم أن منطق تسيدهما على الأحياء و الحارات يعتمد بشكل أساسي على الجاهزية الأهلية و حالة التحفز الدائمة في الشارع التي لم تنقطع منذ الحروب الأهلية.

استغرب البعض وقوف الجيش موقف المراقب و عدم التدخل لإيقاف الاشتباكات، لكن لماذا العجب؟ أليس هذا من تجليات المنطق الذي يقول بسيادة الأهل و إعلاء شانهم فوق الدولة المشبوهة و أجهزتها المريبة؟ أليس الانفجار نفسه نتيجة منطقية لسن سكين العصبية الأهلية الذي تم تمهيدا للسابع من أيار؟ بعض وقع المفاجأة كان طبعا بسبب انتماء الطرفين إلى خط سياسي واحد، لكن من قال أن العصبية الأهلية تتوقف عند حدود التحالفات السياسية؟ هل أوقفت التحالفات السياسية يوما تطاحن الرفاق على ضفتي الحرب الأهلية؟ والحقيقة إن هذه التحالفات لم تكن يوما سياسية بالمعنى العريض، بل مجرد تدابير مؤقتة بين الجماعات الأهلية.

ومن السذاجة الظن بان أي من التحالفات القائمة اليوم يمكن له تجاوز حدود الترتيبات المؤقتة بين جماعات أهلية. فالمتبقي من 14 آذار هو الأخر عرضة للانهيار عندما تزول قابلية الجماعات، كما بين انسحاب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار تحديدا لدوافع أهلية الطابع. تبعا فإن المطالبة بنزع السلاح و تحكيم سلطة الدولة على أهواء الأهل يجب أن تنطلق من مواقع أخرى تؤمن بالعلمانية و تسعى نحو الحداثة، لا تلك التي لا زالت تتولى رعاية علاقة الأهل بالدولة. لكن العجب يكمن في أن الإفراد المؤهلين لاحتلال هكذا مواقع لا زالوا عازفين و متقاعسين عن لعب هذا الدور السياسي بامتياز، فلا زالوا يسقطون في فخ الانحياز إلى هذا الطرف أو ذلك من جانبي التحالفات الأهلية العريضة.

لا شك بان العنوان العريض الذي يفرض هذا الاصطفاف هو «مقولة المقاومة ضد حلفاء الغرب». أو كما يتم التعبير عنها في الشق الأخر «الدولة ضد السلاح الفئوي». و تبعا ينزلق نواة الأفراد إلى الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك. هذا الخيار و إن بدا ضروريا لا يؤدي إلا إلى إقواء مدبري شؤوننا الحاليين و تمتين سلطتهم. و لكن دعنا نواجه الوقائع: ما قتل الشباب في برج أبي حيدر هو العصب الأهلي الذي لا يمكن ترويضه من خارج الحداثة. ما يجعلنا نكفر بقيمة الإنسان هو ذاك العصب نفسه. دعنا نتوقف عن مجاملة أنفسنا عندما نظن إن هذه الشروخ الأهلية لها علاقة ما بالسياسة في معناها الحداثي. ما حصل في برج أبي حيدر ليس هفوة بل عارض مزمن من عوارض نظام لا يزال يتأرجح بين الحداثة و العصبيات الأهلية. هذا خيارنا الوحيد.



الثلاثاء، ٣ آب ٢٠١٠

قصيدة الممثلون - نزار قباني


الممثلون
-1-

حين يصيرُ الفكرُ في مدينةٍ
مُسَطَّحاً كحدوةِ الحصانْ ..
مُدوَّراً كحدوةِ الحصانْ ..
وتستطيعُ أيُّ بندقيّةٍ يرفعُها جَبانْ
أن تسحقَ الإنسانْ
حينَ تصيرُ بلدةٌ بأسرِها ..
مصيدةً .. والناسُ كالفئرانْ
وتصبحُ الجرائد الموَجَّههْ ..
أوراقَ نعيٍ تملأُ الحيطانْ
يموتُ كلُّ شيءْ
يموتُ كلُّ شيءْ
الماءُ ، والنباتُ ، والأصواتُ ، والألوانْ
تُهاجِرُ الأشجارُ من جذورِها
يهربُ من مكانِه المكانْ
وينتهي الإنسانْ

قصيدة من قتل الامام - نزار قباني


من قتل الإمام ؟
ـ 1 ـ

من قتل الإمام ؟
المخبرون يملأون غرفتي
من قتل الإمام ؟
أحذية الجنود فوق رقبتي
من قتل الإمام ؟
من طعن الدرويش صاحب الطريقة
و مزق الجبة .. و الكشكول .. و المسبحة الأنيقة
يا سادتي :
لا تقلعوا أظافري .. بحثا عن الحقيقة
في جثة القتيل .. دوما .. تسكن الحقيقة .

الخميس، ٢٥ آذار ٢٠١٠

مسيرات الخروج على الدولة: في انحسار الطائفية و تبلور الهويات الثقافية

يكاد خروج الأهل على الدولة أن يكتمل في لبنان، عقبا على وضاح شرارة الذي أرخ بدايات هذه النزعة في معرض تحليله لمواجهات عام 1973 بوصفها "فصل من تأريخ الحروب الملبننة". تغليب سلطة الأهل و العلاقات الأهلية على الاجتماع السياسي و قوام الدولة كان بنظر شرارة هدفا أساسيا من أهداف الحركة الوطنية تم تحقيقه من خلال اتفاق الطائف و تم إرساء دعائمه خلال السنوات التي تلت الاتفاق. لوهلة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري و الانتفاضة الشعبية التي تلته بدا إن لبنان قد بدأ يخطو خطوات واثقة باتجاه عكس مفاعيل تغليب النزعة الأهلية على قوام الدولة غير إن سلسلة الأحداث التي تلت ذلك المنعطف التاريخي بينت مدى صعوبة هذه المهمة إلى أن جاءت أحداث السابع من أيار لتنهي عمليا هذه المسيرة و تعيد تثبيت دعائم الحكم الأهلي. و ليس تفصيلا إن تلك الدعائم تقوم بشكل كبير على التشكيك بالدولة و أهدافها و أساليبها ووضعها بشكل مستمر تحت مجهر التدقيق بوصفها موضع شك و ريبة خصوصا من خلال علاقاتها بالدول الأخرى و النظام العالمي. و ليس اعتكاف المعارضين عن إمساك زمام الدولة الذي كان بميسرهم قبيل الانتخابات النيابية إلا دليلا على عدم الثقة بالدولة نفسها و ما تمثله، لا فقط الأطراف السياسية التي تعاقبت على تدبير شؤون السلطة التنفيذية.

و ليس من المبالغة بشيء القول بان هذه العلاقة المضطربة مع مفهوم الدولة هي وجه من أوجه التخلف عن الالتحاق بركب الحداثة و أزمة الفرد في مجتمعاتنا الذي لا يزال يعاني من تسلط العلاقات الأهلية و حضور الماضي الفظ و ثقل وطأته. غير أن هذه العلاقة شهدت تحولات كبيرة خلال السنين المنصرمة أدت إلى تحول نوعي في كيفية إنتاج الخطاب الأهلي كبديل و نقيض لمفهوم الدولة الجامعة. تميزت علاقات الجماعات اللبنانية مع بعضها البعض و مع الدولة تاريخيا بتسليم دور الريادة في الاجتماع السياسي إلى الطوائف المسيحية عموما و الموارنة خصوصا و معه دور مخاطبة الغرب و الالتحاق بالحداثة. كان مشروع الحركة الوطنية في بداية الحرب الأهلية يمثل تحديا لهذه المهمة أو بالأحرى للتفويض المستتبع منها بإدارة شؤون البلاد و القبض على زمام الحكم. غير إن الهدف كما تبين لم يكن اخذ البلاد إلى نظام أكثر ديمقراطية و شفافية بل إلى تكريس سلطة الجماعات على النظام و تدوين أسس محاسبته من خارج المؤسسات في صميم المواثيق و الأعراف و جعل الشك و الريبة أسسا لهذه العلاقة لا عوارض تنشا من الاختلاف السياسي. هذه العلاقة بالأساس تقضي على السياسة كحلبة تنازع الأفكار و المفاهيم و تحيلها هيكلا شكليا فارغا.

ما تغير بعد الحرب هو تطوير مختلف الجماعات اللبنانية لقدراتها الخاصة للاتصال بالحداثة عبر مناظريها و مفاهيمها و بمعزل عن الدولة و الدور المحوري التي كانت تلعبه الطائفة المارونية التي فقدت قدرتها على الريادة في هذا المجال و إن كانت لا تزال تحتل مركزا أساسيا في الاقتصاد و الاجتماع السياسي. و ترافق بروز دور الجماعات مع انحسار الأفكار الكونية في السياسة و الاجتماع و الثقافة و نشوء أفكار مغايرة تقوم على إعلاء شان الخصوصيات الثقافية و تبلورها في شكل المجتمعات المتعددة الثقافات الذي تبنتها الكثير من البلدان كنماذج تنظيم اجتماعي و سياسي. و لعب انحسار دور أفكار الحداثة و انتشار أفكار ما بعد الحداثة دورا كبيرا في التنظير لهذه المجتمعات و إعطائها الأطر القانونية و السياسية. بدا جليا في الدول الغربية التي نحت نحو هذا النموذج إن خطوط الفصل بين الجماعات ازدادت حدة نتيجة لهذا النمط في تنظيم المجتمع فازداد تقوقع الجماعات على أنفسها و انعزالها عن المجتمع بشكله الأوسع. المفارقة تكمن بان توفر وسائل الاتصال بالحداثة و قدرة الجماعات على ولوجها منفردة زادت في إضعاف الأواصر الاجتماعية الطوعية و الفردية و أنتجت قواسم حادة بين الجماعات عبر إعلاء شان الهوية الثقافية و الاحتفال بها على أنقاض الأفكار الكونية الجامعة.

لم يشذ الاجتماع اللبناني عن هذا الاتجاه العام فبدأ التفكك ألقسري الذي فرضته الحرب يأخذ شكلا مغايرا بعد انتهائها. فرغم عودة بعض المناطق إلى الاختلاط ترافق هذا المنحى مع ازدياد حدة الفوارق بين الجماعات اللبنانية و أخذها أشكال ثقافية و اجتماعية و سياسية دفعها انعدام الحواجز المادية إلى العلن بشكل فظ. تظهر هذه الفوارق بشكل حاد اليوم في خيارات الترفيه و التسوق و طرق استعمال المساحات العامة التي تختلف بشكل جذري بين جماعة و أخرى. قد يكون أكثر هذه النماذج وضوحا هو الضاحية الجنوبية التي تطورت بشكل يختلف كل الاختلاف عن المناطق الأخرى تحت أنظار و رعاية حزب الله الذي يضع معايير محددة لما هو مقبول أو غير مقبول من أنماط الاختلاط العام و الترفيه و التسوق و السكن. و ترافق هذا الانفصال المادي مع ابتعاد ذهني و نفسي يكاد يكون أكثر حدة و يمكن لمسه حين تسقط الأقنعة المهذبة على الانترنيت التي أنتجت بدورها فضائات متوازية ترتادها الجماعات اللبنانية على هواها. هذا الفضاء الافتراضي يشكل جزئا مهما من تطوير الجماعات اللبنانية لقدراتها على الاتصال بالحداثة بشكل مستقل و منظم يجاهد ليعزل أفراده عن العالم الأخر و يقوم بإعادة إنتاج و تقوية حدود الهوية الثقافية الواضحة التي لا تجد من ينتقدها في هذا الفضاء المُحتكر. كل الجماعات اللبنانية تمارس هذا التسلط على الهوية الثقافية التي تنتج خيارات سياسية واضحة لا مجال لمعارضتها لكونها في مقام البديهيات. قد ينفلت من هذه المعادلة أفراد لكنهم يفعلون ذلك كفتات اجتماع ينحى بثقله في اتجاه مغاير.

من الانعكاسات المهمة لهذا التفكك على الاجتماع اللبناني تعديه نطاق الطوائف و إن كانت لا تزال الأكثر فعالية في إنتاج ملامح الهوية الثقافية. فالخارجون عن طوائفهم لهم مجموعاتهم و فضائاتهم أيضا و إن لم تكتسب حتى ألان حدة الهويات الطائفية. فيصبح اليسار مثلا نادي ثقافي مهمته تعزيز هوية مريديه لا التغيير الاجتماعي و السياسي، وينتج المثليون فضائهم الخاص و يبتعدون عن الشعارات الواسعة نحو انتزاع حقوقهم كمجموعة واضحة المعالم، و يتوج هذا كله بمسيرة من اجل دولة علمانية يفضح اسمها باللغات الأجنبية هدفها الحقيقي بتكريس العلمانيين كالطائفة التاسعة عشر أو العشرين. هذه المسيرة المنقولة عن نموذج مسيرات المُثليين في الغرب تريد الاحتفال بالهوية العلمانية بوصفها خيارا فرديا و نمط عيش لا أساسا من أسس الدول الديمقراطية الحديثة ينبغي تكريسه في النصوص و الممارسة. كل ما سبق يشير بوضوح إلى انفراط عقد الاجتماع اللبناني و إعادة تشكيله كهويات ضيقة تعيش متجاورة لكن غير متلامسة. و يتلاشى بذلك دور الدولة و السياسة أكثر فأكثر ليفرغ الساحة لضوضاء الجماعات المتشرذمة التي تمارس كل منها سلطتها بإعاقة تطور الدولة التي لن يأتي إلا على حساب هذا التطلب الأهلي اللحوح.

ختاما، المطلوب اليوم هو العودة إلى السياسة بمعناها الأوسع الذي يقوم على تنازع الأفكار لا على تنافس الهويات، و إحلالها حكما بين اللبنانيين و وسيلة لدفع المجتمع نحو التقدم و كسر تسلط الجماعات على أفرادها. يفترض كل هذا الانعتاق من سلطة الماضي و ارثه الثقيل الذي يرزح على صدورنا، لا الاحتفال بالموروثات و تكريس سلطتها. و بالموازي يتطلب ذلك مشاريع تغيير واسعة لا مسيرات متشتتة تنحوا كل منها في اتجاه مغاير نحو تبلور هويات ضيقة و إن بدت خيارات عصرية بوصفها مستوردة من الغرب. قد يستفيد بعض محترفي التشكيك بمنطق الدولة من العودة إلى اللحظة التي سبقت انفجار الحروب الأهلية علهم يعون كم يشبه خطابهم اليوم الخطاب الذي مهد لذلك الانفجار و الذي قام على تغليب المنطق الأهلي على منطق الدولة. هل علينا أن نخوض الحرب مجددا تحت الشعارات نفسها كي نتعظ؟