الأربعاء، ١٧ شباط ٢٠١٠

الرعب غير المتوازن --كارل شرو


لاقى خطاب السيد حسن نصر الله مساء أمس تجاوبا كبيرا من مندوبي حزب الله لدى ما يسمى بالكثير من التفاؤل باليسار اللبناني فسارعوا إلى مدوناتهم و مقالاتهم ليستنهضوا الهمم و يعلنوا عن ولادة توازن رعب جديد بين الحزب و إسرائيل. من كبيرهم العربي الغاضب و الساخط و المحتقن اسعد أبو خليل إلى الصديق الساخر و المتهكم، عادة، خالد صاغية، رددوا كلاما متشابها عن معادلة جديدة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي أخرجها هذا الخطاب إلى العلن. الخطاب نفسه حكيم و واعي اثبت من خلاله السيد حسن عن فهمه و تحليله الدقيق للمرحلة الراهنة، ليس فقط لطبيعة الصراع مع إسرائيل بل أيضا للنفسية السائدة لدى حكام إسرائيل و الوضع الداخلي في لبنان. لكن الخطاب لم يٌفهم جيدا من قبل جوقة اليسار الإعلامي للأناشيد الوطنية و الثورية الذي يبدوا إن نشوة النصر الذي اعترتهم بعد 7 أيار قد أثرت على قدراتهم التحليلية فظنوا إن احتلال شارع الحمراء شكل بداية مسيرة تحرير القدس.


يُدرك السيد حسن جيدا حدود إمكانية استعمال سلاح المقاومة ضد إسرائيل، خصوصا بعد تجربة حرب تموز 2006 المريرة رغم تمكن الحزب من الخروج منها بنصر معنوي. يعرف السيد حسن جيدا إن استخدام السلاح للدفاع عن الأرض مشروع و فعال و سيلاقي دعما من جميع فئات الشعب اللبناني. لكنه يدرك أيضا إن التفريط بهذا السلاح عبر الانزلاق في مغامرات غير مدروسة له نتائج و خيمة. حدد السيد حسن عبر خطابه سقفا واضحا لاستعمال هذا السلاح أراد من خلاله بعث رسالة واضحة إلى الإسرائيليين مضمونها إن أي عدوان إسرائيلي سيكون له رد مناسب و موازي لكن بالمقابل فيها شيء من الضمان للبنانيين إن الحزب لن يفتعل مواجهة أو يقدم حجة لإسرائيل. أما الكلام عن الثأر فقد وضعه السيد حسن في إطار المواجهة عامة مع إسرائيل لا كهدف بحد ذاته.

لكن أصحابنا من أصحاب الأقلام التي تجنح عموما في اتجاه يساري جنوبي شأوا أن يفسروا الخطاب على مزاجهم، فعوض أن يقرءوا رسالة التحذير التي تدعوا إلى المحافظة على حالة لا حرب لا سلم الحالية لعدم قدرة أي من الطرفين على شن حرب ناجحة، أخذهم الخيال إلى قراءة الخطاب بوصفه نقطة تحول تاريخية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. بعبارة أخرى فسروا خطابا مرحليا على انه خطاب دهري. يستثمر العربي الغاضب و رفاقه و نسخه الكثير من الأحلام و الطموحات في حزب الله تفوق كثيرا ما يراه الحزب كدوره السياسي. الانبهار و الافتتان شبه المراهق ببطولات حزب الله يبدوا كأنه يسدل ستارا يحد من بصيرة هؤلاء فيتحدثون من غير خجل عن البطولة و الرجولة و غيرها من مفردات السينما المصرية، و يتناسون الواقع.

أما السيد فلم ينسى الواقع. عندما قارن بين المنشات و البني التحتية في كل من لبنان و إسرائيل أشار بكل وضوح إلى الفرق النوعي و الكمي الكبير بين الاثنين. قد يكون الهدف من ذلك هو إظهار الضعف الإسرائيلي في هكذا مواجهة لان استهداف المنشات الإسرائيلية يؤذيها أكثر مما يؤذي العدوان المعاكس لبنان. لكن المعنى الضمني لهذه المقارنة يشير بوضوح إلى ما لا يمكن تجاهله ألا و هو تخلف الاقتصاد اللبناني و ضعف ركائزه و مقوماته. إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا يجب أن لا تخدعنا الصور الجميلة للبنان في المجلات و الصحف الغربية و القشرة الرقيقة من التقدم التي تغلف اقتصادا ركيكا و متخلفا. التحليل البارد يقول انه لا يمكن لبلد كلبنان أن ينتصر في مواجهة مفتوحة مع دولة صناعية متقدمة كإسرائيل. حدود تلك المواجهة هي دفاع لبنان عن أرضه، أما عندما تتعدى المواجهة تلك الحدود فيدفع لبنان ثمنا باهظا.

يقرأ البعض تلك المعادلة بشكل مقلوب فيستنتج إن ضعف الاقتصاد و المقومات في لبنان هو مصدر قوة! هذا المنطق يعني أن تحويل لبنان إلى بلد مشابه لأفغانستان أمر جيد، فأفغانستان تعتص على الغزاة بسبب الدمار شبه الكامل الذي أصابها جراء عقود من الحروب المتوالية و أعادها إلى العصور الوسطى. إذن بنظر "تقدميي" اليوم تحول كهذا في لبنان سيزيد من مناعته. لذلك يبدون عموما غير عابئين بشؤون الاقتصاد و المجتمع فهذه رفاهيات تقف عائق في وجه المجتمع الحربي الذي يحبون. لا نتكلم هنا عن حزب الله الذي يدرك على المدى الطويل أهمية إعادة بناء الاقتصاد اللبناني، بل عن الطامحين إلى تحرير فلسطين عبر بوابة فاطمة السالف ذكرهم. من الغريب إنهم لا يزالون يحبون أن ينتحلوا صفة اليسار رغم انقلابهم شبه الكامل على الأفكار اليسارية. فاليسار بنظرهم ليس نهجا سياسيا بل هوية اجتماعية – ثقافية لها صبغة ال
cool.




يحب أصحابنا في اليسار الإعلامي عبارة "توازن الرعب" التي تثيرهم و تنعش الأحلام الكامنة في صدورهم. هم كمثل ال
Adrenaline Junkies
في الغرب الذي يمارسون نوعا من إيذاء النفس طلبا للذة. لكن الفارق إن مدمني الإثارة الغربيين يؤذون أنفسهم فقط، أما مدمنيننا فلا ينتشوا إلا إذا طال الأذى مجتمعات بحالها. الديمقراطية بنظرهم تعني أن ينصاع المجتمع لرغباتهم و إلا أطلقوا النعوت و الصفات عليه بوصفه مجتمعا طائفيا متخلفا. لا تؤرقهم أبدا عدم قدرتهم على مخاطبة المجتمع و استقطابه فهذا حكما ضعفا لدى المجتمع لا في أفكارهم البالية. فإذا لم يشأ هذا المجتمع إن يعيش في حالة "الرعب المتوازن"، التي تدمر الأعصاب بصراحة خصوصا بعد عقود من الرعب المتعدد الإشكال الذي عشناه، فهو مجتمع متخاذل! لم ينتبه هؤلاء أن ما أشار إليه السيد حسن بالحقيقة هو رعب غير متوازن لا يمكن المحافظة عليه إلا عبر تدمير ما تبقى من مقومات الاقتصاد اللبناني. فهنيئا لنا بالمسار الأفغاني الموحى به من جامعة كاليفورنيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق