الثلاثاء، ٩ آذار ٢٠١٠

موازنة التناقضات: الاقتصاد اللبناني بين الخطاب التقني و التزمت العقائدي - كارل شرو

قد يبدو للوهلة الأولى إن الاقتصاد شكَل جزءا كبيرا من النقاش السياسي في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية بداية التسعينيات. فقد اخذ البعد الاقتصادي لسياسات رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري قسطا وافرا من النقد و النقد المبادل و شكل محورا أساسيا من محاور التناقض بين المعارضة و الموالاة حتى بعد استشهاد الرئيس الحريري وصولا إلى يومنا هذا. لكن التدقيق في محتوى هذا الجدال يدل على إن معظمه لم يلمس الاقتصاد إلا بشكل سطحي على حساب استعمال لغة الاقتصاد لتسجيل نقاط سياسية رخيصة من جانب طرفي هذا النقاش و ملحقاتهم. الحقيقة إن الاقتصاد بمعناه الواسع و علاقته بالمجتمع و السياسة كاد إن يختفي كليا من النقاش السياسي و انحسر حضوره لحساب نوعان من الخطاب: الأول ينظر إلى الاقتصاد بوصفه مسالة تقنية فحسب من الأفضل تركها للخبراء بينما يتسم الخطاب الثاني بعلو النبرة على حساب دقة المضمون و بشعبوية تحاكي الخطاب اليساري لغويا و تجافيه مضمونا و تحليلا.




لبرهة في مطلع التسعينيات بدا إن الاقتصاد سيأخذ حيزا كبيرا من النقاش السياسي في لبنان بعد وصول رفيق الحريري إلى الحكم و بداية مرحلة إعادة الاعمار. غير أن مشروع الحريري الطموح راهن على تغيرات إقليمية كبيرة لم تتحقق فتعثر المشروع في أولى خطواته و غرق الحريري بعد ذلك في مستنقع السياسة اللبنانية و مدبريها الإقليميين. أمضى الحريري سنواته اللاحقة في الحكم بعد ذلك في موقع دفاعي محاولا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروع تقلص طموحه بشكل حاد. و بغض النظر عن صواب مشروع الحريري أو عدمه إلا انه لا يمكن نكران حقيقة كونه المشروع الاقتصاد الوحيد الذي ُطرح على اللبنانيين في مرحلة ما بعد الحرب. و رغم أن مشروع إعادة الاعمار عانى من كونه مشروعا اقتصاديا بشكل يكاد أن يكون منفصلا عن السياسة إلا إن الحريري دفع حياته ثمنا لمحاولته جعله مشروعا سياسيا و اقتصاديا متكاملا، بعد أن أدرك عدم جدوى فصل الاقتصاد عن السياسة.

حفز مشروع الحريري في بداياته ليس فقط مناصريه بل أيضا مناهضيه الذين جاهدوا لانتقاد المشروع و مواجهته بالحجج و الدلائل مما أنعش الوسط الثقافي في تلك المرحلة فكثرت النقاشات و كُتب الكثير عن إعادة الاعمار في الصحف اللبنانية و تميزت سلسلة الإعمار والمصلحة العامة التي حاولت نقاش إعادة الاعمار من جوانبه كافة فكتب جاد تابت و جورج قرم و نبيل بيهم و عاصم سلام عن الاقتصاد و الاجتماع و العمارة و الحداثة في إطار إعادة الاعمار. أجبر نشاط الحريري المثقفين اللبنانيين على إنتاج موقف من مشروع إعادة الاعمار بشيء من الإلحاح و هم شانهم شان المجتمع اللبناني قد خرجوا منهكين من حرب طويلة لم يفهموا كيف و لماذا انتهت. لا شك أن الكثير مما قيل و كُتب في تلك المرحلة عانى من ذلك الطابع الارتجالي الذي أملته الظروف حينها، غير أن التأمل في المشهد الثقافي في لبنان الآن يكشف عيا لا يمكن تبريره على نفس المنوال. ينطبق هذا على جوانب الثقافة عامة لكن هذا المقال سيناقش قصور النقاش في الشق الاقتصادي الذي يتداخل مع الجوانب الأخرى بطبيعة الحال.

لا تزال سمة مشروع الحريري الأهم قدرته على الاستحواذ على النقاش وإملاء شروطه رغم انه في الحقيقة قد تم تعليقه منذ منتصف التسعينيات. غير أن القاسم المشترك بين أتباع المشروع و مناهضيه هو الإصرار على انه لا يزال مشروعا فاعلا لظن الطرفين بان ذلك يضفي شيئا من المشروعية على مواقفهم الحالية. فيتظاهر ورثة مشروع الحريري بأنهم سائرين على نفس الدرب رغم إن الواقع يدل على إن ما يحصل ألان هو حصاد ما بذره الحريري كمثل مشروع الأسواق التجارية الذي تأخر عقدا بسبب السياسات الانتقامية لحكومة سليم الحص التي بذلت جهدها لعرقلته كأنها كانت تفضل أن يبقى وسط بيروت خاليا من الحياة على أن تبصر رؤية الحريري النور. في الحقيقة تخلى ورثة الحريري عن طموح مشروعه الأصلي و أضحوا اليوم منهمكين في معالجة تفاصيل الاقتصاد التقنية من دون رؤية مرشدة ذات بعد استراتيجي. لكن الحق يقال إن الظروف التي يعيشها لبنان و هذا الفريق تحديدا تعيق إنتاج مشروع كهذا الآن.

في المقابل، يصر مناهضي مشروع إعادة الاعمار على انه لا يزال حيا و فاعلا ليصوروا أنفسهم على أنهم رأس حربة مناهضة العولمة و المشاريع الرأسمالية لما لذلك من نكهة يسارية خفيفة الظل و الوقع في زمن الهوس بالشركات المتعددة الجنسية بوصفها عملا من أعمال إبليس و أداة للاستعمار العالمي. يفضل هؤلاء المجاهدون الامميون التمركز بموقع الدفاع و المواجهة لعدم امتلاكهم لأي مشروع اقتصادي جدي فالنقد من الخارج يحقق الكثير من النتائج من دون جهد أو مخاطرة. احد جهابذة هذا الفريق حاز على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من إحدى الجامعات الغربية ليعود إلى لبنان و يكتب مقالات تشبه بنكهتها البرامج الفكاهية التي تكثر على الشاشات اللبنانية و تؤدي دورا مشابها بتنفيس الاحتقان من دون تغيير أي شيء. هذا العي ليس من باب الصدفة أو التقاعس بل منهجا طوعيا للبقاء خارج مسار التأثير على الإحداث و الاكتفاء بالتعليق عليها. يتيح هذا الموقع لإتباعه بإطلاق النعوت على ربابنة الاقتصاد اللبناني من دون المخاطرة بطرح مشروع معاكس. يقابل هؤلاء الخطاب التقني لمدبري شؤون الاقتصاد اللبناني بتزمت عقائدي يعفيهم من مسؤولية طرح البدائل.

كتب محمد زبيب في الأخبار مقالا ممتازا بعنوان "الخلافات بين مصرف لبنان ووزارة المال: من يحمل الخسائر؟" فضح فيه الأسلوب التقني الذي ينتهجه المسئولون عن الاقتصاد اللبناني في إدارة شؤون هذا الاقتصاد و الطبيعة التفاعلية لسياسياتهم التي لا تعدو كونها محاولات للحد من أضرار متغيرات طارئة و خارجية فيما يسير الاقتصاد من غير رؤيا أو مشروع. و المفارقة أن الاستثمار الخارجي الذي تبحث عنه الدول الأخرى و تبذل جهدا كبيرا لاستقطابه يشكل عبئا في لبنان المتخم بالسيولة التي لا طاقة له على استعمالها. إذا دل هذا على شيء فهو يدل على ضعف ركائز الاقتصاد اللبناني و السياسات المحافظة لمصرف لبنان والحكومات المتتالية التي تعيق نموه. فعلى عكس "تهمة" النيو ليبرالية التي يوجهها النقاد إلى الحكومة اتسمت سياسات الحكومات المتتابعة منذ أواسط التسعينيات بكونها محافظة و بنفورها من المخاطرة. أملت الظروف السياسية إلى حد كبير هذه السياسات اقله بسبب طبيعة الحكومات التي تجمع الأضداد و تنحى بالسياسة دوما نحو القاسم المشترك الأدنى، و في غياب أية رؤية شجاعة أصبح هذا النهج عرفا.

يعبر هذا التوافق الضمني الشامل عن نفسه بشكل تناقض حاد عالي النبرة يوحي بأنه هناك اختلاف في وجهات النظر في الشؤون الاقتصادية فيما الحقيقة عكس ذلك بالضبط. يزداد الوضع ضبابية لإصرار البعض على استيراد صفات كاليسار و الليبرالية و إطلاقها جزافا على هذه الجهة أو تلك في ما يبدو كأنه ‘باروديا’ للسياسة في دول الغرب و برغم إن هذه الاتجاهات قد اضمحل معناها في دول المنشأ فما بالك في بلد لم يتخطه اهتمامه بها أبدا حدود الفضول السطحي. إذا تجاوزنا هذه الصفات التي لا تعدو كونها منابر كلامية نرى أن القاسم المشترك في النظرة إلى الاقتصاد بين الموالاة و المعارضة و النقاد و الإعلام هو تناسي المحرك و المؤشر الأساسي للاقتصاد ألا وهو النمو. هناك ما يشبه التواطؤ بين الحكومة و نقادها في اعتبار الموضوع الضريبي محورا للنقاش في الاقتصاد، فتبرر الأولى حاجتها إلى زيادة الإيرادات فيما يحتج الآخرون بان تأثير الزيادات الضريبية له تأثير كبير على الفقراء. و رغم صواب المقولة الأخيرة إلا إن استعمالها لرسم حدود المعارضة لسياسة الحكومة الاقتصادية يدل على انعدام طموح المعارضين و ضيق أفاقهم. نعم المدافعة عن حقوق الفقراء ضرورية لكن الجدل في فواصل المعدلات الضريبية لن يخرج لبنان من ركود اقتصادي مزمن يتنكر بصورة نمو من حين لأخر بسبب التحويلات المالية و المضاربات العقارية.

لعل اكبر دليل على مدى التواطؤ في شؤون الاقتصاد هو إحجام المعارضة عن محاولة إمساك شؤون أي من الوزارات الاقتصادية الأساسية فالجميع يقبلون ضمنا بضرورة تولي تيار المستقبل تحديدا لهذه الوزارات. يعود هذا جزئيا إلى كون الاقتصاد كأسا مرة لا يريد أي من المعارضين تذوقها في الظروف الحالية إلى جانب عدم امتلاكهم إلى أي مشروع اقتصادي حقيقي. (أو مشروع سياسي حتى، لكن هذا موضوع مقال أخر). لكن الجميع يعرفون إن إسناد الاقتصاد إلى الموالاة و تيار المستقبل ليس تفويضا مطلقا بل محور خلافات و تناقضات يتم إخراجها إلى العلن عند كل فرصة مناسبة. إذن يُقبل باستلام المستقبل لشؤون الاقتصاد مقابل تعطيل مشروعه عمليا، فنعود إلى نفس المناقشات غير المجدية نفسها في شؤون الإنفاق و الضرائب و لكن معاذ الله أن يتم مناقشة موضوع النمو و إنتاجية الاقتصاد اللبناني. يعَوض البعض في المعارضة عن هذا النقص في الرؤية الاقتصادية من خلال التركيز على الشفافية و محاربة الفساد. بغض النظر عن انتهازية طروحات كهذه في بلد قائم على المحسوبية التي تقبلها المعارضة شكلا و مضمونا، يبقى أن الشفافية و مكافحة الفساد بنفسهما لن يكون لهما أي تأثير نوعي على الاقتصاد الذي يعاني من غياب الرؤية و تراجع القدرات الإنتاجية.

عودة إلى مشروع الرئيس رفيق الحريري الأساسي، ترافق هذا المشروع مع مقولة معارضة رأت انه من الأصلح "إعمار البشر لا إعمار الحجر." هذه المقولة الساذجة تتناسى إن فرص العمل و التعليم و الطبابة و الثقافة تحتاج إلى بنيات تحتية من شبكات اتصالات و مواصلات و أبنية و مراكز لتوليد الطاقة و غيرها إلا إذا كان التعليم يتم على الطريقة اللبنانية التقليدية تحت السنديان. و تناسى دعاة هذه المقولة دور الرئيس الحريري الكبير في توفير التعليم لآلاف الطلاب من خلال منح مؤسسة الحريري التي يبدو أثرها الكبير واضحا اليوم في العدد الكبير من خريجي الجامعات الذين يعملون في لبنان و خارجه و يساهمون مساهمة كبيرة في الاقتصاد اللبناني إما مباشرة أو عبر التحويلات التي يرسلونها إلى لبنان. شكل هذا الاستثمار في التعليم و البنية التحتية بداية مشروع إنمائي طموح لم يٌطرح أي بديل عنه حتى الآن إلا إذا اعتبرنا مجتمع الحرب الذي يريدنا البعض الانخراط فيه مشروعا بديلا. غير إن هذا المشروع قد تغيرت ملامحه كثيرا، قسرا لا طوعا، و فقد الكثير من طموحه.

ليست الغاية من هذا المقال الدعوة إلى إعادة إحياء هذا المشروع، فهذا شان أطراف سياسية هي الأقدر على مهمة كهذه إذا ما توافرت لديها الإرادة السياسية. لكن المهمة الأكثر إلحاحا اليوم هي مواجهة النزعتين السائدتين في شؤون الاقتصاد اللبناني: الأولى التي تنظر إليه بوصفه مجموعة من المسائل التقنية و الثانية التي تعتبر إن مهمتها هي لعب دور "روبين هود" في التصدي للسياسات الضريبية لحكومة تعتبرها المركز الإقليمي للنيو ليبرالية. فهذا التناقض البادي للعيان يخفي قبول الطرفين بشكل الاقتصاد اللبناني و محدوديته و عدم الطموح إلى تغييره ليصبح أكثر إنتاجية و تقدما. يتفق الجميع على إبقاء الهيكل على حاله و يختلفون على بعض التفاصيل الصغيرة التي لن تغير شيئا في طبيعة هذا الاقتصاد. في مواجهة هاتين النظرتين المحافظتين ينبغي إعادة موضوع النمو الاقتصادي إلى صميم النقاشات الدائرة و التعلم من تجارب دول شرق أسيا التي حققت خطوات هائلة عبر مشاريع إنمائية طموحة انتشلت الملايين من الفقر عبر التقدم الصناعي و الاستثمارات المجدية. كل كلام في الاقتصاد لا يلامس النمو هو محض جدل بيزنطي تعلو نبرته قبل إقرار الموازنة ليعود إلى سباته بعد اكتمال البازار السياسي الذي يتيح للجميع التبرؤ من الموازنة في اليوم الذي يلي إقرارها. ما هكذا تبنى السياسات الاقتصادية والمجتمعات الحديثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق