صدق الرئيس سليم الحص عندما قال عن أحداث برج أبي حيدر إن «ما حصل كان بمثابة الكفر بقيمة الإنسان». لكننا ثابرنا على هذا النمط من الكفر لعقود، أما حان الأوان كي نسال عن أسباب هذا العنف المتأصل؟
قال قائلون بأن الإشكال مفتعل لإحراج حزب الله و تسليط الضوء على سلاحه المنتشر بكثافة في أحياء بيروت. و رأى آخرون بان العكس هو الصحيح و المقصود من المواجهة هو إضعاف موقع رئيس الحكومة سعد الحريري في الأوساط السنية. هذان ابسط الاحتمالات المتداولة، فالنظريات تزداد تعقيدا و تشابكا كلما عصى تطابقها مع الوقائع. و المفارقة أن الأحداث دائما تفاجئنا، فيندر أن تصح تحليلاتنا و توقعاتنا في السياسة و نجد أنفسنا دائما لاهثين للحاق بتأثيراتها. و الغريب في هدا كله انه لا مكان للمصادفات و الأحداث العفوية في منطقنا، فكل ما يجري عندنا مدبر و محضر و على الأرجح يشكل جزء من مؤامرات تحاك في أماكن أخرى.
فوجئ حزب الله بالأحداث ورأت جمعية المشاريع أن تطور الأمور جرى على نحو «غير مفهوم ». المفاجئة لم تمنع انتشار الأسلحة الرشاشة و القذائف الصاروخية بسرعة فائقة. و مع الطرفين الحق بإعلان تفاجئهما، فمن كان يتوقع أن انتشار الأسلحة بموازاة التهيج المذهبي قد يؤدي إلى انفجار الوضع بهذا الشكل؟ فوجئ الطرفان رغم تراكم سلسلة من الأحداث في نفس المنطقة على مر الأشهر الماضية جرى احتوائها على الطريقة اللبنانية. فوجئ الطرفان أيضا برغم أن منطق تسيدهما على الأحياء و الحارات يعتمد بشكل أساسي على الجاهزية الأهلية و حالة التحفز الدائمة في الشارع التي لم تنقطع منذ الحروب الأهلية.
استغرب البعض وقوف الجيش موقف المراقب و عدم التدخل لإيقاف الاشتباكات، لكن لماذا العجب؟ أليس هذا من تجليات المنطق الذي يقول بسيادة الأهل و إعلاء شانهم فوق الدولة المشبوهة و أجهزتها المريبة؟ أليس الانفجار نفسه نتيجة منطقية لسن سكين العصبية الأهلية الذي تم تمهيدا للسابع من أيار؟ بعض وقع المفاجأة كان طبعا بسبب انتماء الطرفين إلى خط سياسي واحد، لكن من قال أن العصبية الأهلية تتوقف عند حدود التحالفات السياسية؟ هل أوقفت التحالفات السياسية يوما تطاحن الرفاق على ضفتي الحرب الأهلية؟ والحقيقة إن هذه التحالفات لم تكن يوما سياسية بالمعنى العريض، بل مجرد تدابير مؤقتة بين الجماعات الأهلية.
ومن السذاجة الظن بان أي من التحالفات القائمة اليوم يمكن له تجاوز حدود الترتيبات المؤقتة بين جماعات أهلية. فالمتبقي من 14 آذار هو الأخر عرضة للانهيار عندما تزول قابلية الجماعات، كما بين انسحاب وليد جنبلاط من قوى 14 آذار تحديدا لدوافع أهلية الطابع. تبعا فإن المطالبة بنزع السلاح و تحكيم سلطة الدولة على أهواء الأهل يجب أن تنطلق من مواقع أخرى تؤمن بالعلمانية و تسعى نحو الحداثة، لا تلك التي لا زالت تتولى رعاية علاقة الأهل بالدولة. لكن العجب يكمن في أن الإفراد المؤهلين لاحتلال هكذا مواقع لا زالوا عازفين و متقاعسين عن لعب هذا الدور السياسي بامتياز، فلا زالوا يسقطون في فخ الانحياز إلى هذا الطرف أو ذلك من جانبي التحالفات الأهلية العريضة.
لا شك بان العنوان العريض الذي يفرض هذا الاصطفاف هو «مقولة المقاومة ضد حلفاء الغرب». أو كما يتم التعبير عنها في الشق الأخر «الدولة ضد السلاح الفئوي». و تبعا ينزلق نواة الأفراد إلى الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك. هذا الخيار و إن بدا ضروريا لا يؤدي إلا إلى إقواء مدبري شؤوننا الحاليين و تمتين سلطتهم. و لكن دعنا نواجه الوقائع: ما قتل الشباب في برج أبي حيدر هو العصب الأهلي الذي لا يمكن ترويضه من خارج الحداثة. ما يجعلنا نكفر بقيمة الإنسان هو ذاك العصب نفسه. دعنا نتوقف عن مجاملة أنفسنا عندما نظن إن هذه الشروخ الأهلية لها علاقة ما بالسياسة في معناها الحداثي. ما حصل في برج أبي حيدر ليس هفوة بل عارض مزمن من عوارض نظام لا يزال يتأرجح بين الحداثة و العصبيات الأهلية. هذا خيارنا الوحيد.